سورة الأنفال - تفسير تفسير القشيري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}.
أجاب واستجاب بمعنى مثل أوقد واستوقد، وقيل للاستجابة مزية وخصوصية بأنها تكون طوعاً لا كرهاً، وفَرْقٌ بين من يجيب لخوفٍ أو طمع وبين من يستجيب لا بِعِوَضٍ ولا على ملاحظة غَرَضٍ. وحقُّ الاستجابة أن تجيب بالكلية من غير أَنْ تَذَرَ من المستطاع بقية.
والمستجيبُ لربه محوٌ عن كلِّه باستيلاء الحقيقة، والمستجيب للرسول- صلى الله عليه وسلم وعلى آله- قائم بشريعته من غير إخلال بشيء من أحكامها. وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالاستجابة له- سبحانه، وبالاستجابة للرسول؛ فالعبدُ المستجيبُ- على الحقيقة- من قام بالله سرَّاً، واتصف بالشرع جهراً فيُفْرِده الحقُّ- سبحانه- بحقائق الجمع و(...) في مشاهدة الفرق، فلا يكون للحدثان في مشرب حقائقه تكدير، ولا لمطالبات الشرع على أحواله نكير.
قوله جلّ ذكره: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
إذْ لمَّا أفناهم عنهم أحياهم به.
ويقال العابدون أحياهم بطاعته بعد ما أفناهم عن مخالفته، وأما العالِمون فأحياهم بدلائل ربوبيته، بعد ما أفناهم بسيوف مجاهدتهم. وأمَّا الموَحِّدونَ فأحياهم بنور توحيده بعد ما أفناهم عن الإحساس بكل غير، والملاحظة لكل حدثان.
قوله جلّ ذكره: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
يصون القلب عن تقليب أربابها فيُقلِّبها كما يشاء هو، من بيان هداية وضلال، وغَيبةٍ ووصالٍ، وحُجْبةٍ وقُرْبة، ويقينٍ ومرية، وأُنْسٍ ووحشة.
ويقال صان قلوب العُبَّادِ عن الجنوح إلى الكسل، فجدُّوا في معاملاتهم، وصان قلوب المريدين عن التعريج في أوطان الفشل فصدقوا في منازلاتهم، وصان قلوب العارفين- على حدِّ الاستقامة- عن الميْل فتحققوا بدوام مواصلاتهم.
ويقال حال بينهم وبين قلوبهم لئلا يكون لهم رجوعٌ إلا إلى الله، فإذا سنح لهم أمر فليس لهم إلا الأغيار سبيل، ولا على قلوبهم تعويل. وكم بين من يرجع عند سوانحه إلى قلبه وبين من لا يهتدي إلى شيء إلا إلى ربِّه! كما قيل:
لا يهتدي قلبي إلى غيركم *** لأنه سُدَّ عليه الطريق
ويقال العلماء هم الذين وجدوا قلوبهم، قال تعالى: {إنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] والعارفون هم الذين فقدوا قلوبهم.


احذروا أن ترتكبوا زلَّةً توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها، بل يعمُّ شؤمُها من تعاطاها ومن لم بتعاطها.
وغير المجرم لا يُؤْخَذ بِجُرْم من أذنب، ولكن قد ينفرِد أحدٌ بجرم فيحمل أقوامٌ من المختصين بفاعل هذا الجُرْم، كأن يتعصبوا له إذا أُخِذَ بحكم ذلك الجرم فبعد أن لم يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم؛ فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالماً في الحال بل إنها تصيب أيضاً ظالماً في المستقبل بسبب تعصبه لهذا الظالم ومطابقته معه، ورضاه به، وهذا معنى التفسير من حيث الظاهر. فأمَّا من جهة الإشارة: فإن العبدَ إذا باشر زَلّةً بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة وهي العقوبة المعجلة، وتصيب النَّفْس منها العقوبة المؤجلة، والقلبُ إذا حصلت منه فتنة الزلة- عندما بهم بما لا يجوز- تَعدَّتْ فتنته إلى السِّر وهي الحُجْبَةُ.
والمُقَدَّمُ في شأنه إذا فعل ما لا يجوز انقطعت البركاتُ التي كانت تتعدى منه إلى مُتَّبِعِيه وتلامذته، وكان لهم نصيبهم من الفتنة وهم لم يعملوا ذنباً. ويقال إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر عند تَرْكِهِم الأذكار أصابتهم فتنةُ ما فعلوه؛ فلقد قيل إنَّ السفيه إذا لم يُنْهَ مأمورُ. فعلى هذا تصيب فتنةُ الزَّلةِ مرتكبَها ومَنْ تَرَكَ النَّهي عن المنكر- مثل مَنْ ترك الأمر بالمعروف- يؤخذ بِجُرمه.
ويقال إنَّ الزاهد إذا انحط إلى رخص الشرع في أخذ الزيادة من الدنيا مما فوق الكفاية- وإن كان من وجهٍ حلال- تؤدي فتنته إلى من يخرج به من المبتدئين، فبجملة ما أبدى من الرغبة في الدنيا، وتَرْكِ التقلل يؤدي إلى الانهماك في أودية الغفلة والأشغال الدنيوية.
والعابد إذا جَنَحَ عن الأَشَقِّ وتَرَكَ الأوْلى تعدَّى ذلك إلى من كان ينشط في المجاهدة؛ فيستوطنون الكسل، ثم يحملهم الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات فيصيرون كما قيل:
إن الشبابَ والفراغ والجدة *** مَفْسَدةٌ للمرء أي مفسدة
وهكذا يكون نصيبهم من الفتنة.
والعارف إذا رجع إلى ما فيه حَظٌّ له، نَظَرَ إليه المريدُ، فتتداخله فترة فيما هو به من صدق المنازلة، ويكون ذلك نصيبه من فتنة العارف.
وفي الجملة إذا غفل المَلِكُ، وتَشَاغَل عن سياسة رعيته تَعَطَّلَ الجندُ والرعية، وعَظُمَ فيهم الخَلَلُ والبَليَّة، وفي معناه أنشدوا:
رُعَاتُك ضيَّعوا- بالجهل منهم- *** غُنَيْمَاتٍ فَاسَتْها ذِئابُ
{اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} بتعجيله ذلك، ومن شدة عقوبته أنه إذا أخذ عبداً ليُعَاقِبَه لا يُمَكِّنه من تلافي موجب تلك العقوبة.


قوله جلّ ذكره: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَئَاوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصّرِهِ}.
يُذَكرهم ما كانوا فيه من القِلَّة والذِّلة وصنوف (...) ثم ما نَقَلَهم إليه من الإِمْكان والبَسْطَة، ووجوه الأمان والحيطة، وقَرَّبهم إلى إقامة الشكر على جزيل تلك القِسَم، وإدامة الحمد على جميل تلك النِّعم، فمهَّد لهم في ظل أبوابه مقيلاً، ولم يجعل للعدوِّ إليهم- بيُمْنِ رعايته- سبيلاً.
قوله جلّ ذكره: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
رَزَقَ الأشباحَ والظواهرَ من طيبات الغذاء، ورزق الأرواح والسرائر من صنوف الضياء. وحقيقة الشكر على هذه النعم الغيبة عنها بالاستغراق في شهود المُنْعم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10